ومن الجدير بالذكر:
فضفضة ما قبل الرحيل.. (4) محمد عبد المعطي رمضان
الشاعر ناقة الله وسيفه، لا كرامة له في مواسم السلام أو في أتون الحروب المشبوهة، فإن ارتاحت السماء على كف الأرض وامتدت طاولة المفاوضات بين المُقدّس والمُدنّس، كان على الشاعر أن يمتطي ظهر الشيطان وأن يكفر برحمة الحرف والنقل، فلماذا سرت مع الله إلى الطاولة، وتركت توقيعك في صحيفة الهدنة ونحن ضحاياها؟!.
قبل 15 عامًا تأرجحت الخطوة الحيرى لمراهق يخربش الشعر زغب صدره وطلل من مرّوا ولم تسعفهم الحناجر، فكان اللقاء الذي فَتَل مشنقة المحبة على عنق الصحبة المؤقتة، كان محمد عبد المعطي رمضان، القرويّ المفطوم على وعيّ الناس وأوجاعهم، على ألسنتهم وسيرتهم، علي جرح أبٍ أُمّي يعيد ترتيب السيرة الهلالية في ليل قرية "فديمين" على مسافة آلاف الليالي من وجع الهلالية وآلاف الكيلو مترات من صدى أصواتهم وصليل سيوفهم، الفتى القرويّ الذي آمن بسيف بن ذي يزن كعفاريت الجن وتضاريس اليمن، ولكنه اختار أن يلعب في صلصال الدلتا وصدور ناسها، بلسانهم وملحهم وصحون طعامهم الفارغة، واختار أن يكون إنسانًا مع الحياة والناس والشعر، فقال كما يليق بالفقير والمريض ومتوسط التعليم والموظف الصغير والهامشي المطرود من بؤرة المركز ونعيمه، فسطَّر في القلوب قصائد أكثر مما سطّره في الورق، وبينما خلّف ولدين وثلاثة دواوين ونصًّا مسرحيًّا لم يسعفهم زحام الساحة وصخب السوقة على رثاء أبيهم، خلف ألف قلب يتفصّدون شعرًا وإنسانية ورحمة ورأفة بالكلام والصمت.
الولد الأربعيني الذي كان يراود الحياة في كل مساء عن عصمتها، ولم يخالجه الموت في شطر أو حرف، غادر في زفّة تليق بشاعر عامية فقير، غادر إلى الأسود بينما كان يرتّب شيئًا في الصدر ممًا اعتاد ترتيبه لأعراس الرفاق المكسوّة بالأبيض، غادر وخلّف "عبد العزيز" و"كريم"، وخلّف لهما يتمًا يشبه يتمي، وخلّف لنا - الأصدقاء المقربين - ولي بشكل خاص، توكيدًا لفظيًّا ومعنويًّا على يُتم كنت على مقربة من تقليم أظافره بعد عشرة خمسة عشر عامًا، لم يعد الإله الصغير وصانع البسمات الأسطوري حاضرًا كما كان، انفض السامر ونسي الأصدقاء النكات والقصائد، وألبسه الروتين والاعتياد ثوب الذكرى السنوية، وتداعى جبل المحبة على كفّ السباقات الصغيرة كومة نسيان وتجاهل، لا تحمل غير يقين عميق بمآل يجرح عصمة التجربة ويبدّد طاقة الإيمان بإكمالها، فهل نجري - وهل أجري أنا أيضًا - مشوار الإنسانية والبهجة وخربشة قلوب الناس، لأجل أن يكتب الأصدقاء بضع قصائد، وأن يجتمعوا كلّ عام لمرة واحدة على شرف قتلي بإنزالي إلى منازل الطلل ومقامات شواهد القبور؟!.
يا عبد المعطي، يا ابن الشعر والله والماء الآسن في مُقَل المتعبين بابتساماتهم، يا ابن احتياج اليتيم لظلٍّ ظليل، واحتياج الموسيقى لمنشد أمين على المقام والأنغام، هل وجدت ما وعدك الرفاق حقّا؟، وهل يخبرك كريم وعبد العزيز - في زياراتك الأثيرية الخاطفة - أننا رفاق طيبون ونُحسن حمل أمانات الطيبين السابقين من رفاقنا؟!، صدّقني يا ابن قلبي وأباه، لم أعد أحفظ شيئًا من قصائدك كما كنت، فقد اكتشفت أنني أحمل ذاكرة الماء وقسوة قلب ملك الموت، بالتأكيد لم أنس ملامحك، ولكن ما حاجتك إلى العكوف على شبحية البدن وتخيُّلاته وقد ضمرت الروح في ضلوع محبّيك وانطفأ شمعك على مذابح لهاثهم خلف لا شيء؟!، يا عبد المعطي.. هل أعطاك الاحتراق في ليالينا شيئًا من النور في وحشتك الأخرويّة؟، لماذا كنت طيّبًا إلى هذا الحدّ معنا ومع الحياة؟، لماذا مارست خيبتك الإنسانية بإيمان عظيم وكأنك رسول أمن الرسالة وإن نسي الإله التكليف؟!، لم تملك حسابًا على فيس بوك، ولكن لماذا لم تقرر - ولو لمرة واحدة - أن تغلق هاتفك في وجوهنا وبيتك ومحلّ عملك وقلبك أيضًا، وأن تعكف على حزنك الرمادي المتكوّم في عينيك، كي تنزفه فلا يرافقك في رحلتك الأخيرة؟، لماذا لم تفعل - يا صديقي الأقرب من حبل الوريد - وأنت برساليّتك منزوعة التكليف، وبصحبتك لله على طاولات التفاوض، كنت تعلم أن من تنفق عليهم بضعة روحك لن يصونوا غير ذكرى البدن؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق