وضعت الحرب المجنونة والغير متكافئة أوزاها ، تركت بصماتها المؤلمة في كل بيت وحارة , دمار ، أرامل وأيتام ، جرحى تعج بهم المستشيفات ، مقعدين وأصحاب عاهات مستديمة ، إنتشر الكل في الشوارع يتفقدون بيوتهم وأقاربهم بوجوه كئيبة حزناً وألماً والبعض ممن سلم من هذا الأعصار يرسم على شفتيه بسمة خجلى ويحاول الأبتعاد قدر الأمكان عن أماكن الخراب حتى لا تزكم أنفه رائحة الجثث المتعفنة .سيارات الأسعاف والدفاع المدني تزمجر في كل شارع وزقاق .
التئم ثلاثة شبان تجمعهم الصداقة والجيرة ، بعد فترة تفرق طيلة مدة الفزع والرعب ، تحدث أحدهم :
- الى متى يستمر بنا هذا الحال نحمل شهادات جامعية وبلا عمل والله أنا مللت
- أجاب الآخر أنا أستحي من والداي وأخوتي وكلما قمت بعمل بطالة وضيع أياماً قليلة قدمت أجري لوالدي فيرفض قائلا خلي الفلوس معك لتقضي حاجتك
- قال الثالث وأنا على نفس الحال ولكن ما نستطيع أن نفعل ؟
إبتهج الأول فقد وصل لمراده وقال :
يجب أن نترك البلد ونسافر بلا عودة
إستغرب الآخران فلم يكن لديهم أدني فكرة عن كيفية السفر وسألا بصوت واحد ولكن كيف نسافر والمعبر لايسمح بالسفر إلا للطلبة ومن يحملون إقامات في إحدى الدول .
- بسيطة هذه محلولة ، مكاتب السفر تعطي فيزة لمليزيا أو تركيا مقابل ثلاث مائة دولارللفرد
- الثاني العين بصيرة واليد قصيرة
- الثالث لا أنا أرفض الفكرة فلن أترك أسرتي وأنا أكبر إخوتي ووالدي مريض رغم أنه موظف ويمكنه أن يقدم لي المبلغ المطلوب .
- الأول لا تستعجلوا الرفض ، فكرو في الأمر وتدارسوه مع عائلاتكم ولكن بسرعة لأن المعبرة سوف يفتح بعد ثلاثة أيام ثم أضاف بعد خروجنا من المعبر نذهب الى الأسكندرية ومن هناك نستقل سفينة الى إيطاليا ثم ننطلق منها الى بلد أوروبي يسقبل المهاجرين
إنفض جمعهم وعاد كل منهم الى أهله حاملا فكرة صديقهم ، المفاجأة التي أذهلتهم موافقة الأهل على الفكرة ، وإستعد والد كل منهم بتدبير المبلغ المطلوب ولو بالدين ، واضعين نصب أعينهم فكرة أن يوفقوا في بلد أوروبي ويحصلوا على جنسية البلد وبالتالي تهاجر الأسرة بالكامل ، كما ان هاجس الخوف من إنزلاق أولادهم بالأنضمام الى أحد التنظيمات المتناحرة وربما ينعكس ذلك على الأسرة بكاملها بالدمار والتشتيت .
خلال أيام حصل كل منهم على الفيزة المطلوبة والتي تمكنه من أجتياز معبر رفح ، كان الأول مخطط جيدا لهذا السفر ولكنه يريد رفقة من أصدقاءه ، بمجرد وصولهم الى الجانب المصري خارج المعبر كان في إنتظارهم رجل من لكنته ربما بدوي ، قبض منهم العمولة وجهز لهم سيارة تقلهم مباشرة الى الساحل الشمالي غرب الأسكندرية وأوصى السائق ألا يتركهم حتى يؤمنهم وقدم له ورقة مكتوب فيها عنوان وإسم رجل . قطعوا رحلة طويلة إستمرت أكثر من أربعة وعشرين ساعة ، وصلوا الى منطقة صحراوية لايوجد فيها شجر ولا حجر ، فقط كثبان رمليه وشاطىء جميل وبعض مراكب الصيد ، وجدوا الرجل المقصود متدثراً ملابس الصيادين ، سحبهم الى عشة من البوص ، تبعد قليلاً عن الشاطىء وقال : إنتظروا هنا مع إخوانكم وأخواتكم حتى ينتصف الليل ، كانت العشة ( الخص ) تزدحم بالشباب والنساء والأطفال بعضهم من فلسطيني مخيمات سوريا وعدد قليل من غزة ، لم يتعرفوا على أي منهم ، شعر الثالث بغصة في حلقه وإنقبض قلبه وتجمدت أوصاله من المنظر ، مع الهزع الأخيرمن الليل جاء دورهم ليعتلوا مركب صيد ، يمخر بهم عباب البحر يصارع الأمواج الى مسافة عشرات الأمتار بعيداً عن الشاطىء حيث تقف سفينة صدأة عفا عليها الزمن وأكل منها الكثير من كفاءتها وصوت موتورها يزمجر كرجل غريق تلهث أنفاسه ، أنتفض الثالث لمنظر السفينة وصرخ أنا لن أسلم روحي وجسدي لهذا الشبح المهترىء ، قفز من المركب في غفلة من ربانه وكر عائدا الى الشاطىء مستفيداً من قدراته الرياضية ، فقد حاز على بطولات أثناء دراسته الجامعية ، كما أن الربان لم يلتفت ولم يعرف عدد ركاب المركب ولايعير ذلك أي إهتمام فقد قبض أجره مقدماً .
بعد جهد جهيد وصل الشاطىء بجسد مرهق وقد أعياه المجهود العضلي وألقى بجسده على رمال الشاطىء الذهبيه .. تهادى الى سمعة صوت أنين السفينة بحمولتها الضخمة من الشباب والنساء والأطفال ، يمتزج بهدير أمواج البحر، لحظات قليلة مرت قبل أن يغط في نوم عميق ، مع إنبلاج ضوء الصباح وتمزق ستائر الليل ، فتح عينية المثقلتين على صوت رجال الشرطة من حرس السواحل ، إقتادوه الى اقرب مخفر ، فقص عليهم حكايته وقدم لهم جواز سفر الملفوف بدقة داخل كيس بلاستيكي ، قال له ضابط الشرطة سلمت من الغرق ، لقد غرقت السفينة بمن عليها إثر سيرها مئات الأمتار وجاري البحث عن الناجين ، طلب من الضابط أن يسمح له بالعودة الى المعبر.
محمود عودة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق