وكالة أنباء الشعر – جاسم سلمان
تملك الشاعرة والأكاديمية الجزائرية المعروفة " زينب الأعوج " الكثير من القواسم المشتركة مع زوجها الأديب المعروف " واسيني الأعرج .. كدماثة الخلق .. والقدرة على الإدهاش ، والأكثر من ذلك الإبداع .. والاختلاف .
لذلك يكون اللقاء معها مختلفاً .. ومثيراً للجدل الجميل .. فهي تأخذنا إلى أبعد من عالم الكلام .. والشعر .. والرواية .. والثقافة .. وتحمّل طاقاتنا الروحية الكثير من التعب ، بحزن شاعريتها ، وكمية الفواجع والأخذ بنا إلى المأساة بجرة قلم ...
وفي هذا الحوار معها .. أخذتنا أيضا إلى الكثير من الأسرار والقضايا المخفية .. كقصة زواجها وحبها .. وكتاباتها ... والكثير الكثير ...
- في البدء الشاعرة زينب الأعوج .. هل نبدأ من آخر إصداراتك الشعرية .. ولماذا كل هذا التوغل بالألم الإنساني في نصوصك والأخذ على عاتق شاعريتك التعمق بالآلام والآمال ؟
أكيد، يستحسن البداية بآخر الإصدارات، مرثية لقارئ بغداد والتي هي عبارة عن قصيدة واحدة موزعة على 117 مقطعا، 300 صفحة تقريبا صدرت هذه السنة بدار الفضاء الحر بالجزائر، وستصدر قريبا عن دار الجمل في لبنان ورباعيات " نوارة لهبيلة "، والتي هي أيضا عبارة عن قصيدة واحدة في حدود المائة صفحة أيضا صدرت هذه السنة عن دار الجمل في لبنان وبعدها في دار الفضاء الحر في الجزائر. هذا في ما يخص عملية النشر.
وهنا أعود لفكرة التوغل في عمق الألم الإنساني. طبعا هي الحياة، والحياة فيها وعليها كما يقول المثل الشعبي. نعيشها بحلوها ومرها على المستوى الفردي والجماعي. والكتابة أولا وقبل كل شيء، هي نحن بكل تفاصيلنا المرئية والخفية، بكل تفاصيلنا مهما كان حجمها وميزانها، ثقلها وخفتها .لا يمكن أن نكتب بمعزل عما يسكننا من هواجس ومن حالات ومن أمزجة وأهواء وشطحات روحية خاصة. في إحساسي الداخلي أشعر أن الإنسان هو الفصل الخامس في الكون وفي الطبيعة، وهو الفصل الذي يحتوي الطبيعة بكل تقلباتها. الإنسان هو الفصول كلها في وقت واحد. مزاجي ومتقلب ومشكل ومعقد، وصادق وكاذب، ومجامل ومنافق، وحليم وغاضب ، وطيب وحنون وقاسي.. هو بالأساس كتلة معقدة تفكك الكتابة جزءا من تشابكاتها الداخلية الشفافة .
وأنا من الناس وفيهم وبهم، لا أعيش بمعزل عنهم وبالتالي أنا قريبة مما يفرحهم ومما يحزنهم، أنا قريبة من الجرح اليومي الذي ينزف في كل العالم دون استثناء . العالم من زمان أصبح قرية صغيرة، ولا شيء متخفي، كل شيء مرئي للعيان ومفضوح إلا على الذين يريدون أن يتعاموا على ما يحدث. ما يحدث، أنا ألتقطه بطريقتي الخاصة كإنسانة وكامرأة وكشاعرة، والآخر يلتقطه من زاوية النظرة الصحفية، وآخر من زاوية الصورة بكل أنواعها الصحفية والتلفزيونية والسينمائية وآخر من زاوية التحليل السياسي وآخر من زاوية المصلحة الضيقة أو العامة ..ومن ,, ومن الخ,, هناك من يرى العالم بعين متفتحة ومتبصرة وهناك من يسجن ذاته رؤيته في خرم إبرة.. أحاول دوما أن أكون من الذين يرون العالم بعين متفتحة ومتبصرة وبحس إبداعي مرهف وشفاف.
- هل عبرت عما بداخلك أو أوصلت ما جعلك تطرحين هذا النص\ الديوان ؟
أحاول من خلال الكتابة أن أغوص في عمق الإنسان وأن أبحث عما هو جميل وشفاف فيه ، في داخلنا يتصارع الجمال والقبح الخير والشر.. وعلينا أن نروض ذلك بما هو جميل ومبهج وممتع من فن وموسيقى وشعر لينكمش القبح في داخلنا ويتوارى، ويفسح الطريق لما هو جميل فينا من أجل الحب لنا وللآخر الذي يشبها قليلا أو كثيرا أو ربما لا يشبهنا.. وأنا أرى في الشعر تلك الطاقة الخلاقة والأسطورية التي يمكنها أن تحرك الإنسان وتغير دواخله. أرى في الشعر تلك الأرض المعطاء التي تحتوي الجميع وتلك المدينة التي ترفض الحواجز والأسوار. ولم يخطئ من قال أن الشعر ملح الحياة يحميها من العفن. الكتابة بالنسبة لي هي طموح جميل أريد أن أصل إلى جزء منه وأن أصعد إلى قليل من روابيه. الكتابة مثل النور بالنسبة لي وأنا أجتهد وأعمل لأكون في مستوى قامة هذا النور فقط.
- هل استطعت رثاء بغداد وبقية العواصم الموجوعة في 300 صفحة ، وديوان مرثية لقارىء بغداد ؟ أم ما زال هناك رثاء في ذمة آخر المستقبل؟
مرثية لقارئ بغداد ليست مرتبطة بعاصمة من العواصم كما يمكن أن يفهم مباشرة من العنوان، ولا هي مرتبطة بالعراق وحده. قارئ بغداد عندي، وكيف شكلته وصغته، وكيف نحته، هو الذاكرة الجمعية والحوصلة التي جمعت الكارثة الإنسانية في أبشع صورة من صور الحقد الأعمى، لا مثيل لها، على الأقل في عصرنا الحالي، صورة فيها من البدائية والتوحش، ما يكفي، لنهش الإنسان وتاريخه واستباحة أرضه وعرضه، في فلسطين والعراق وأفغانستان وأماكن أخرى كثيرة عشنا مآسيها وما زلنا عن طريق الإعلام والكتب وتقارير الهيئات الإنسانية الخ....
- كيف جاءت لك الفكرة لكتابة ديوان شعري لقارئ بغداد ؟
أخذت العنوان من صديق، هو كاتب عراقي معروف اسمه جبار ياسين، كانت في ذهني عشرات العناوين، قبل أن أنتهي من العمل وبعد أن انتهيت منه، إلا أن قارئ بغداد بقيت عالقة بذهني منذ قرأتها أول مرة. وبعدها سكنتني من جديد مع الغزو الأمريكي للعراق. خاصة الصورة التي سقطت بها بغداد. حينها كنت أتعاون مع صحيفة جزائرية باللغة الفرنسية وأنجز برنامجيين إذاعيين للإذاعة الجزائرية برنامج عنوانه آخر الليل مدته 20 دقيقة كلها قراءات شعرية من الشعر العربي والعالمي، وفيه خصصت حينها حصصا كثيرة للشعر العراقي والفلسطيني. والبرنامج الثاني الذي كانت مدته ساعة كان عبارة عن حوارات مع مفكرين وفنانين ومبدعين من الوطن العربي والعالم أيضا، كنت أينما سافرت أحمل جهاز التسجيل معي وأستغل فرصة وجودي في هذا البلد أو ذاك في أي تظاهرة ثقافية أكون من بين مدعويها وضيوفها. فخصصت جزءا منه لقول فلسطين وقول العراق عن طرق الفن والثقافة والفكر دون السقوط في السياسي المباشر فقمت بمجموعة من الحوارات من بينها حوار مع الفنان التشكيلي والخطاط الكبير الصكار والكاتبة عالية ممدوح والكاتبة والصحفية إنعام كشاشي.. والكاتب جبار ياسين صاحب قارئ بغداد، وغيرهم كثير. لما استقريت على العنوان طلبت من الصديق جبار ياسين الإذن فقبل بكل طيبة ومحبة . في الأول كان العنوان مرثيتي فغيرته إلى مرثية لقارئ بغداد, لأنني رأيت أنه يعبر على الفجيعة الأولى والتي منها تناسلت كل الفواجع الأخرى، وهي تدمير واستباحة مكتبة بغداد والمتحف الوطني. استباحة الذاكرة والتاريخ والجهد الإنساني العتيق والكبير المتراكم عبر العصور من شريعة حمو رابي وما قبلها إلى الآن.
طبعا لا زال الرثاء متواصلا لأن الفجائع لم تنته بعد.. ولا زالت متواصلة تنهشنا في العمق .. والرثاء ليس بمعنى الندب والبكاء والحسرة فقط .. الرثاء هنا صرخة لدق ناقوس الخطر على كل المستويات وتنبيه العقل لأن العقل هو رسول الحق كما قال التوحيدي. والخطر لا يتمثل فقط في ما يمسنا من الآخر (العدو أو من نعتبره أخا أو صديقا ) ولكن أيضا ما نُفجعُ به نحن أنفسنا ، وما نضر به أنفسنا نحن داخل مجتمعاتنا وداخل أوطاننا.
- شاركت قبل حوالي الشهر في مهرجان سوق عكاظ بالسعودية .. وطالبت بإلقاء قصائدك من على المنصة ، وتم منعك من ذلك ، فهل كنت متوقعة لهذا الأمر منذ أن تمت دعوتك ؟ أم كان مفاجئاً لك ؟
قبل أن أجيب على السؤال، وجميل أنك أثرته. اسمح لي أن أقول أن تجربة سوق عكاظ كانت تجربة متميزة ومتفردة ومثمرة وجدّ غنية بالنسبة لي. وقد سعدت وأنا أتلقى الدعوة الكريمة للمشاركة في فعاليات سوق عكاظ كشاعرة جزائرية. وهنا أشكر من القلب كل القائمين على التظاهرة التي أتمنى لها كل النجاح والاستمرارية ودائما بشكل أجمل وأرقى وأوسع، أشكرهم على الترحاب والاحتفاء الجميلين بي وعلى الحفاوة التي استقبلت بها وبشكل متميز كشاعرة وكامرأة وكجزائرية ، وعلى رأسهم الدكتور الجريدي المنصوري والدكتور عبد الرحمن الطلحي اللذان أتاحا لي فرصة التعرف عن قرب على مجموعة كبيرة من المثقفين والمبدعين السعوديين نساء ورجالا، اكتشفتهم عن قرب بجمالية وحميمية راقية وتبادل ثقافي وإنساني جميل وشفاف. كثيرين سعدت بلقائهم والتعرف عليهم. وسمحوا لي باكتشاف تلك المناطق المعتقة بالتاريخ والقداسة.
سعدت بالزيارة والمشاركة في سوق عكاظ لكوني أيضا أشتغل على كاتبات منطقة الخليج والجزيرة العربية منذ 6 سنوات مع معهد الدراسات العليا في باريس، فكانت هذه الفرصة جميلة وجميلة جدا بالنسبة لي.
- وماذا عن الإشكالية التي حصلت ؟
أما بالنسبة لقصة المنصة والقراءة الشعرية، فكانت مفاجئة قليلا بالنسبة لي، إذ لم أخبر من أقبل كوني سأقرأ شعري جالسة وفي مكاني في الجهة المخصصة للنساء، وليس على المنصة كباقي الشعراء. طبعا كان هناك احتجاج وردة فعل ليس فقط من طرف الشاعرات الموجودات بما فيهم أنا، ولكن حتى من طرف مجموعة من المثقفين والشعراء السعوديين الموجودين. وهناك حتى من أردن مقاطعة التظاهرة لكن كانت الحكمة والرزانة والتبصر أحسن حل. لم أرد أن أجعل منها ضجة إعلامية أو استغلالها بشكل أو بآخر . هو حدث عابر بالنسبة لي، يمكن أن يحدث مثله أو أسوا منه في أي بلد من البلدان العربية والإسلامية, أنا أريد أن أنظر إلى ما هو إيجابي وأنعت وأنتقد ما هو سلبي بطبيعة الحال للذهاب نحو الأجمل والأرقى دائما. المسألة مرت وانتهت بالنسبة لي، الشيء الأهم والجميل هو أن تستمر تظاهرة سوق عكاظ وأن تنفتح على العالم العربي والإسلامي والعالم ككل، لأنها تظاهرة قيمة ولها وزنها الكبير في الساحة الفنية والثقافية. وهي ليست أقل قيمة مما هو موجود في العالم الغربي، بل أتوقع أنها ستكون ربما أكبر من التظاهرات العالمية على مستوى الشعر مثل أسواق أو مهرجانات الشعر في العالم. لأنها مشروع مدينة ثقافية وفنية بكل ما تحمل الكلمتين من معنى. ربما ستكون البوابة الجميلة التي ستفتح الأبواب السرية والسحرية للرمل هناك، تلك الأبواب المغلقة على كنوز البشرية والإنسانية. كنوز إذا توصلنا إليها ستنبئ بأشياء كبيرة عن مهد الحضارات والإنسان وتقلب الكثير من موازين في العلم.
- أعلنت أنك تعدين لإصدار انطولوجيا عن السرد النسائي ، فلماذا انحزت لنون النسوة لترصدي الكاتبات والروائيات دون الرجال ، رغم أن لا جنس للإبداع ؟
هي فكرة كثيرا ما راودتني لكن وقتي وانشغالاتي وإمكانات دار النشر "الفضاء الحر" التي أشرف عليها لم يسمحوا بإنجازها من قبل . فأنا من فترة طويلة أشتغل على كتابات المرأة في الوطن العربي، وأردت أن أتوج عملي ومجهودي بهذه الانطولوجيا والتي هي شبه منجزة، أنا الآن مع التصحيحات والرتوشات الأخيرة. عمل أردت أن أفيد به طلابنا على مستوى الجزائر, لأنه كما تعرف الكتاب مشكلة المشاكل في الوطن العربي فهو لا يسافر إلا في المعارض.
هذه الأنطولوجيا أردتها تقريبا تمثيلية لرواية المرأة في الوطن العربي ، ولذلك اشتغلت عليها أيضا من الجانب التأسيسي، لأنني من خلال قراءاتي لكتب النقد في الوطن العربي أحسست أن المرأة المبدعة عموما لم تأخذ حقها في الدراسات العربية أو في كتب النقد التي خصصت للأدب العربي.
هناك نوع من الإجحاف بالرغم من أن أول رواية عربية ربما على سذاجتها وبساطتها كتبتها امرأة، طبعا أنا لم أتناول العملية انطلاقا من فكرة تنافسية ومن الأسبق فقط أردت أن أعطي مادة يمكن أن تفتح بعض الآفاق لطلبتنا ومن يريد الإطلاع على كتابة المرأة. أنطلوجيا يمكننا إدراجها في إطار تأريخ الأدب. أيضا أردت أن أبين من خلال هذا العمل أن المرأة في الوطن العربي كتبت بعدة لغات وليس اللغة العربية فقط, هذا ما أبينه في مقدمة الكتاب.
زينب الأعوج مع واسيني الأعرج
- من المعروف أن زوجك هو الأديب والروائي الكبير " واسيني الأعرج " فهل تسردين لنا قصة ارتباطكما ، وكل منكما يمتلك موهبة أدبية مختلفة عن الآخر ؟ وما مدى التشابه بينكما ؟
طبعا ما يجمعني بواسيني أشياء كثيرة وكبيرة. أولا هناك الحب وهناك الصداقة وهناك الود والاحترام وهناك الأولاد باسم وريم، وهناك عشرة عمر، وهناك العمل المستمر للحفاظ على هذه العلاقة بجمالية. وواسيني اليوم ليس الزوج والحبيب والمبدع فقط على مستوى عالمنا الصغير، الذي هو الأسرة. هو الآن كاتب كبير ومعروف عربيا وعالميا وله وزنه الأدبي الكبير وثقله، وبالتالي أنا الآن أحس بمسؤولية أخرى على عاتقي ثقيلة وثقيلة جدا وهي كيف أحافظ عليه وأحميه لي ولأولادي أولا ولكل محبيه وعشاقه. مهمة ليست سهلة أتمنى أن أوفق فيها وبكل قوة.
تعارفنا ونحن طلبة في قسم الأدب العربي في وهران بالجزائر ، بعدها تزوجنا وذهبنا طلبة إلى سورية بمنحة من الدولة الجزائرية. درسنا بجامعة دمشق، المدينة العزيزة جدا على قلبي والتي أقمنا فيها عشر سنوات، أنجبت فيها باسم وريم وتحصلنا خلالها واسيني وأنا على ماجستير ودكتوراه دولة. واسيني اشتغل على المتن الروائي وأنا اشتغلت على المتن الشعري الجزائري والمغاربي بإشراف الدكتور حسام الخطيب الذي أتمنى له من عمق القلب الصحة والعافية وطول العمر بجمال.
واسيني عالمه الرواية وأنا عالمي الشعر على مستوى العملية الإبداعية، لكن المكتبة التي تأثث ذاكرتنا في معظمها واحدة، كلانا يقرأ الشعر والرواية والقصة والفلسفة والتاريخ والسياسة والكتب المقدسة. بمعنى أن النبع الذي يروي عطش القراءة في أغلبه واحد.
أما التشابه بيننا فهو في عشق اللغة وأسرارها وفي العطاء والسخاء ومحبة الآخر وتقاسم ما نملك من معرفة متواضعة معهم.
- نلاحظ في كتابات واسيني الأعرج شاعرية بالرواية ، وفي شعرك سرد الرواية والمأساة ، فهل فكرت أن تكتبي أو تصدري رواية ؟
هذا سؤال يكمل ما سبقه وقد أجبت على جزء منه.
الكتابة مثل الألوان أو الموسيقى هي عوالم خاصة بكل مبدع وهي داخلية وحميمية جدا. وما هو ذاتي عميق هو ملكية أنانية سخية في عطائها، لكن ما يؤثث هذه الذاتية من معارف ومخزون ثقافي وفكري هو مشترك، يغرف منه كلانا، طبعا تدخل فيه عوالم كل واحد فينا من محيط وتربية وطفولة والجوانب والراثية والتجربة، وما نطلع عليه من كتب الخ، ومرتبط أيضا بالطريقة والوسائل التي يستعملها كل مبدع في التقاط ولمس ما يستثيره على مستوى الكتابة. وبما أن الكتابة هي أيضا العلاقة مع اللغة ومدى استنطاقها وكيفية تلمسها فإن اللغة تطاوع كل مبدع حسب طريقته في تعامله معها. اللغة حب وعشق وتشوق، لا بد أن تراودها باستمرار دون تعب أو ملل إذا أردتها أن تفتح لك أبواب أسرارها.
في ما يخص النوع، أنا أقول أنه الآن أصبحت أنواع الكتابة تستعير من بعضها البعض، وكأننا نعود بالشعر والرواية إلى الأصل الأول الذي هو الملحمة، هناك روايات نقرأها من أولها إلى آخرها كأننا نقرأ قصيدة طويلة جميلة وملحمة راقية، وهناك قصائد تمكنت من استعمال الجانب السردي بجمالية مفرطة وصور شعرية فيها المتعة والإغراء والعلاقة الشفيفة مع اللغة.
في ما يخص المأساة، لست أدري، ربما هي جزء مني وأنا لا أدري ذلك، كل كتاباتي فيها نبرة الفجيعة والمأساة. لم أفلح إلى حد الآن في كتابة قصيدة في الحب مثلا أو قصيدة أحكي فيها ذاتي الحميمة، طبعا أشتهي ذلك لكن كلما بدأت نصا أجده يختار مجراه وأجدني أطاوعه إلى النهاية مثل ما حدث مع رباعيات نوارة لهبيلة ومرثية لقارئ بغداد.
أما الرواية فقصتها قصة ، ربما لأنني أرى نفسي شاعرة قبل كل شيء وربما لأنني أريد أن أصل بتجربتي في الشعر إلى شيء مغاير ومتميز. لم أفكر إلى حد الآن وبشكل جدي في كتابة الرواية رغم أنني بدأت رواية عن عائلتي منذ سنوات وهي في درج من الأدراج. في العطلة الصيفية الماضية، هكذا وعلى حين غفلة زارتني جدتي التي توفيت قبل أكثر من ثلاثين سنة، لتحرك ذاكرتي معها وتنفض عنها بعض الغبار. فبدأت أكتب قصصا قصيرة وقصيرة جدا مستوحاة كلها من ذاكرتي مع جدتي . ربما أنشرها وربما لا. هي تجربة جديدة وفقط.
وأيضا في نظري أي عملية إبداعية، هي ليست بالضرورة محطة للوصول إلى عملية إبداعية أخرى أهم, هناك من يكتب القصة والشعر والرواية وهو مرتاح وناجح بشكل جميل في كل هذه الأنواع, وهناك من يكتب القصة فقط أو الرواية فقط أو الشعر، ويحاول أن يعمل بجد لإعطاء الجديد والمتميز والممتع من خلال ما يكتب. كل عملية إبداعية هي محطة في حد ذاتها وليست جسرا للعبور إلى محطة أخرى.,, لا أشعر بأي نقص كوني لم أكتب رواية إلى حد الآن، أنا مرتاحة جدا في عوالمي الشعرية وأتمناها أن تكون راضية عني ما تبقى من العمر.
- هل يطلعك الأستاذ واسيني على مسودات كتاباته قبل إرسال أي عمل روائي للمطبعة ؟ وهل يحدث العكس في كتاباتك ، وهل يتدخل أي منكما بأعمال الآخر ؟
أكيد منذ تعارفنا وحتى قبل أن نتزوج ونحن نستأنس برأي بعضنا البعض على مستوى كتاباتنا. نتناقش ونتبادل الآراء في قضية معينة طرحناها مثلا على مستوى الكتابة. كثيرا ما نناقش العناوين وحتى كيفية صناعة الكتاب. طبعا لا أحد فينا يتخذ دور الرقيب في عمق ما يكتب الآخر. فكلانا حر في كتاباته لكن كلانا يمكن أن يعطي وجهة نظره. مثلا مجموعتي الأولى، "يا أنت من منا يكره" الشمس كنت كتبتا وأنا طالبة في جامعة وهران ( 1974-1979) أعطيته لواسيني حتى يقرأه ويعطيني رأيه، تصادف أن ذهب واسيني قبلي إلى دمشق، فقدم المجموعة إلى اتحاد الكتاب العرب فزكتها الأديبة قمر كيلاني أطال الله في عمرها. لم يخبرني بها إلا بعد أشهر بعد أن ذهبنا زوجين شابين إلى دمشق، فكانت مجموعتي الأولى هي هدية زواجنا. بالنسبة للمجموعة الثانية "أرفض أن يدجن الأطفال" نفس الشيء لما انتهيت منها قرأها كاملة بعد أن كان قد قرأها على مراحل، فقدمها لوزارة الثقافة والإرشاد القومي فقبلت وكانت مفاجأتي الثانية في 1981 والأولى كانت في 1980.
روايات واسيني، طبعا، أنا أول من يقرأها وأشعاري هو أول من يقرأها أيضا. قبل أن تسافر إلى أي دار نشر ليس للمراقبة كما أوضحت ذلك سابقا، لكن للمتعة والاستئناس بالرأي، واسيني يشركنا كلنا أنا والأولاد باسم وريم في رواياته وهو يكتبها .. واسيني حكاء جميل وممتع، وهو يكتب أي عمل من أعماله يحكيه ويكتبه في نفس الوقت .. يتقاسمه بسخاء وبمتعة مفرطة..
- أصدرت ديواناً صوتياً رغم أنها سابقة فريدة في عالم النشر العربي على الأقل ، فكيف طرأت لك الفكرة ، وما الذي جعلك لم تصدريه مطبوعاً ، وكيف وجدت التجربة ؟
بداية، أنا أكتب باللغة العربية الفصحى ويحدث معي مرات أن أكتب بالفرنسية، لكنني قبل سنوات دخلت تجربة الشعر الشعبي، ما تسمونه في منطقة الخليج بالشعر النبطي. ربما ما وصلك هو فقط القرص. كتبت أكثر من 50 قصيدة في هذا النوع اخترت منها 12 قصيدة نشرتها في مجموعة، أي في كتاب مع قرص مضغوط وشريط من قراءتي مع مرافقة للعزف على العود، وكانت حينها تجربة متفردة ومتميزة، لأنها كانت جديدة على الساحة. والمجموعة هي "نوارة لهبيلة" نشرت في 2002 مع مجموعة أخرى بعنوان "راقصة المعبد" لكن هذه الأخيرة باللغة الفصحى. كانت تلك القصائد جد مطلوبة لأنها تعبر عن مشاكل حميمة وعن العنف المسلط ضد المرأة وعن معاناة الجزائريين مع القتل والتطرف والإرهاب وأيضا هي قصائد مشغول عليها جماليا بشكل كبير، إذ كتبت القصيدة الشعبية التي لها أيضا طقوسها وقوانينها بشكل جديد مثل القصيدة الحديثة، بمعنى أنني غيرت في قوالبها وفي أساليبها وطريقة كتابتها. ولذلك كانت تجربة جديدة، والتي فتحت الأبواب بشكل جميل، لتجارب أخرى متميزة جدا الآن في الساحة الجزائرية، خاصة في أوساط المبدعات وفي مختلف المناطق الجزائرية.
.
- أنت أستاذة جامعية بباريس ، كيف تجدين تدريس الأدب ، ومدى إقبال جيل الشباب على الأدب والثقافة ؟
أول ما استقريت في باريس في 2004 اشتغلت مدة أربع سنوات في جامعة باريس الثامنة قسم الأدب العربي. بعدها انتسبت إلى مركز الأبحاث في مجال الأدب والأنطروبولوجيا، وأيضا حصلت على دبلوم الدراسات العليا في باريس الرابعة، بإشراف المرحوم الباحث والمبدع جمال الدين بن الشيخ، الذي ترجم ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية واشتغل كثيرا على الموروث الثقافي والإبداعي العربي والإسلامي، وتقريبه من المتلقي الفرنكوفوني. بعدها أقمنا سنة في أمريكا ب "لوس انجلس" بدعوة من مركز الأبحاث والفنون (القيتي سانتر) و(فيلا أورورا) مؤسسة الكاتب الألماني "ليون فوشتفانجر" ، الذي عانى من ويلات النازية وتوفي في الخمسينات وبقي بيته مكانا مفتوحا للمبدعين والفنانين من مختلف أنحاء العلم.
تجربتي في التعليم والعلاقة مع الطلبة، بينت لي أن هناك نوع من الإقبال على الثقافة العربية والإسلامية، خاصة من طرف الجيل الثالث من أبناء الجالية العربية والسلامية المتواجدة بقوة في الجامعات الفرنسية ، هناك نوع من الفضول أيضا لدى بعض الطلبة الفرنسيين والأجانب المتواجدين في الجامعة الفرنسية الذين يرغبون في اكتشاف عالمنا وثقافتنا لأنهم ليسوا معزولين، هم يدرسون مع الطلبة ذوي الأصول العربية والإسلامية. أيضا منذ أحداث 11 سبتمبر نما نوع من الفضول لثقافتنا وأدبنا.
- كيف ترين إقبال الجمهور الفرنسي والغرب على القراءة للشعراء والأدباء العرب ، خاصة وأن لك إصدارات بالفرنسية ، وتعيشين بأوروبا ؟
الجمهور الغربي فئات مختلفة بطبيعة الحال وليس فئة واحدة ، الفئات المثقفة عموما عندها نوع من الفضول ونوع من الإقبال على الكتاب العربي أو الشرقي بشكل عام -تركي أو إيراني أو أفغاني إلى غير ذلك من اللغات الشرقية- المترجم إلى اللغة الفرنسية، نلاحظ ذلك في معارض الكتاب مثلا وفي مكتبة معهد العالم العربي وبعض المكتبات العربية . هناك أيضا معرض سنوي للكتاب المغاربي الذي نرى فيه إقبالا كبيرا على الكتاب العربي المترجم، وأيضا يجب أن أنوه بالمجهود الجبار الذي يقوم به الصديق فاروق مردم باي( والذي يستحق في نظري تكريما خاصا) نظرا لما يقوم به على مستوى دار النشر( أكت سود ) في فرنسا والدور الكبير الذي يلعبه في الترويج للكتاب العربي المتميز والمترجم إلى الفرنسية وما له علاقة طبعا بما يكتب من طرف العرب سواء باللغة الفرنسية مباشرة أم مترجم من اللغة العربية . هناك ايضا سوق الشعر وربيع الشعر الذي نجد فيه تواجد بعض الكتاب العرب سواء من ترجمت كتبهم أو من يكتبون مباشرة باللغة الفرنسية.
يبقى السؤال المطروح كيف نروج نحن، وكيف نسوّق لثقافتنا ولكتابنا انطلاقا من بلداننا إلى العالم الغربي عن طريق الترجمة والتبادل الثقافي المثمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق